بدأت القصة منذ ثلاثين عاماً، حين التحق طارق بالمدرسة الابتدائية نفسها التى كنت أدرس بها، المدرسة العتيقة التى تعود لأربعينيات القرن الماضى، بسقفها العالى وحجراتها الواسعة، وغابة الأشجار فى حديقتها الأمامية التى كان محرما علينا- نحن الأطفال- ولوجها.
لماذا يا طارق كنت تبدو حزينا دائما؟، وكأنك تعرف أسراراً مخيفة، وتحمل فوق صدرك الغض أطناناً من الأحزان. كنت طفلاً فى الصف الأول الابتدائى، ورغم ذلك لم أشاهدك تلعب يوماً، أو تركض خلف الأطفال، لم أشاهد ابتسامتك العذبة ترفرف على شفتيك. كنت دائماً متوحداً منفرداً، متشرنقاً فى أحزانك. طارق! لماذا لا ترد على دعابات الزملاء؟ طارق! لماذا لا تركض وتلهو؟ لماذا لا تستجيب لدفقة الحياة؟
كنت أسألك كل مرة، وفى كل مرة كنتَ تلوذ بالصمت، ولماذا تنفرد بنفسك فى الفسحة لترسم هذه الأشكال المخيفة؟، غزتنى قشعريرة مخيفة وأنا أشاهد الجماجم التى ترسمها يا طارق، سألتك فأجبت فى براءة الطفولة وأنت تشير إلى صورة جمجمة أنها صورة بابا، وجمجمة أخرى أكدت أنها تخص ماما، وحتى حين رسمت أطفالاً كثيرين فقد ملأت الورقة بالجماجم.
السؤال هو: لماذا لا ترسم إلا ....
الجماجم أيها الطفل الغرير؟
■ ■ ■
وفجأة فهمت، لا أدرى كيف فهمت، ربما لأننى كنت طفلاً مثلك، طاهراً مثلك! ربما لو كنت أكبر قليلاً لم أكن لأفهم قط، فهمتُ أن عينيك- لسبب ما- مختلفتان عن باقى البشر، تخترقان الجلد واللحم، كالأشعة السينية لا تريان إلا العظام. رغم ذلك كنت تميز الجماجم عن بعضها، المذهل أنك كنت تظن الجميع مثلك، يشاهدون الوجوه جماجم! فقط جماجم.
الآن عرفت سر حزنك العظيم، الآن فهمت لماذا تنطوى على نفسك، وترمق ما حولك بعينين خائفتين، الآن عرفت لماذا حين اكتشفت السر منى، وفهمت أنك مختلف عن سائر البشر، تركتنى بسرعة ورحت تركض كالمجنون، حينما عرفت فى الصباح التالى بخبر موتك غرقاً، لم أبح بالسر. كنت قد خمنت أنك ستغرق نفسك بعد أن اكتشفت سر تفردك المريع.
■ ■ ■
سنوات عديدة وأنا أطرد الذكرى من عقلى.. سنوات عديدة وأنا أسدل على ذكراك ستائر النسيان. حتى حين درست فى كلية الطب حاولت أن أفهم كيف تتحول عينا طفل إلى مصدر للأشعة السينية، لم أجد أى تفسير.
والآن تعود ذكراك بعد كل هذه السنين. تنظر نحوى بالعينين الخائفتين ذاتهما والوجه الحزين. وكأنك تخبرنى من خلف عالمك الآخر بأن الموت هو الحقيقة مهما تجاهلنا، وأن وجوهنا التى نحملها، هى فى حقيقتها جماجم، مجرد جماجم، لا يراها على حقيقتها، كما هى بالضبط، إلا طفل اسمه «طارق»، متوحد منفرد حزين.
source:almasry-alyoum